بادئ ذي بدء، أود التأكيد في هذه المقالة بأنني لست ميالاً إلى اتهام أيّ أحد بالعمالة أو الخيانة؛ إلا أن الجهل بإستراتيجيات الأوطان في بعض الظروف أشد خطرًا من التآمر والعمالة.
وقبل الحديث عن الدور الجزائري في حلحلة الأزمة الليبية ارتأيت من المناسب سرد قصة حصلت لي مع نهاية 2011م، وهي أنه في إحدى زياراتي لمدينة سرت إحدى المدن الليبية التي تعرضت للدمار مرات عدة، جرى حوار مع أحد مشايخ المدينة، - فلوجوده حكايات لا يستكنفها إلا المتأملون- حيث قال ذلك الشيخ -الذي فقد إبنه في أتون الحرب الأهلية، وباللهجة الليبية «يلي ماتوا في الحرب أولادنا ويلي عاشوا أولادنا»، وهو بهذه المقولة يحاول التأكد بأن الوطن أكبر من الأشخاص حتى لو كانوا حكاماً.
إن وقائع ومشاهدات الحرب الأهلية 2019- 2020م، أعادت أمامي مشاهدات وتفاصيل تلك الواقعة، حيث ضاعفت هذه الحرب من شرخ الجسد الليبي، وأصبح مستقبل الوطن وأمنه في الميزان، وطالعني سؤال مهم من فوق السطح، وهو: هل الحرب الحاصلة حاليًا هي حرب الأعداء، أم حرب الإخوة؟
لا أظن أن القارئ في حاجة إلى أيّ إجابة لهذا السؤال، فالنظرة العميقة تُبين أنه لا شيء يشبه الحرب الأهلية إلا الحرب الأهلية نفسها، ولا يعرف مآسي الحرب الأهلية إلا من مرّ بها، فالجراح فيها تتسع كل يوم، وليس لها من راق، والموت يرتسم فيها على الوجوه قبل الأجسام؛ ولكن بطرق مختلفة، والوطن فيها يضيع ولا يستطيع أحد دفعه للأمان، فالحرب أطلت على الجميع، ولكن لا أحد يعرف كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟.
عمومًا سنحاول من خلال هذه المقالة الاقتراب بشكل أعمق من الأزمة الليبية بدون حدة، أو تعصب، أو عناد، فالأحداث والظروف تستلزم أن تكون هناك منهجية واضحة ومحدّدة تساعدنا على رؤية تلك الأزمة بشكل أفضل، بالتالي سنقوم بإتباع منهجية كيمياء التفتيت، وهي تعني الحاجة إلى تفكيك الوقائع والأحداث بغية كشفها وفهمها بالشكل المناسب والمطلوب.
ولعلنا نروم من وراء كل ذلك أن نفهم الوقائع والأسباب والنتائج، وفي هذا الصدد يحذرنا رايت ملز من ألا نقع فريسة الأقوال السيارة، أو ما تبثه وسائل الاتصال، أو حتى آراء أهل السياسة ونظرتهم لقضايا المجتمع. وأكاد أجزم بأن فهم واستيعاب أيّ مشكلة بموضوعية، وبمنطق، ودون تحيز يمكن أن يكون جزءًا من الطريق إلى حلها، وجزءًا من الاستعداد لأعبائها.
بالتالي استأذنكم في أن أبدأ معكم بمناقشة وتوضيح أهم تلك الوقائع؛ وهي مبنية على المشاهدة والمعايشة اليومية للأحداث، فمن أراد أن يكتب عن ليبيا عليه أن يعيش فيها، ولعلي أتجاسر ـ دون تجاوز ـ فأقول إن بعضها قد يكون جديداً، بالتالي أعتقد بأننا بحاجة إلى الكشف والفهم والتوضيح، وهي:
إن الحراك المجتمعي الحاصل في ليبيا العام 2011م، كانت له دواعيه الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، والتي أدت في نهاية المطاف إلى سقوط النظام السياسي السابق، بدعم ومساندة خارجية، إلا أن ذلك الحراك فشل في تأسيس مشروع وطني للتغيير، كونه لم يستند إلى أيّ مرجعية فكرية، كما أنه افتقر إلى وجود قيادة سياسية موّحدة.
•كان سقوط النظام السياسي السابق يعني بالضرورة سقوط الدولة ومؤسساتها، وهذه الحقيقة لم يُدركها جلّ من تولى مسؤولية السلطة في ليبيا، منذ 2011م، فكل المسؤولين تعاملوا مع مؤسسات الدولة وكأنها لا تزال صحيحة، بالرغم من كون الشواهد والأدلة تبين وجود حالة انهيار تُعاني منه مؤسسات الدولة كافة، ولعل أهمها المؤسسات الأمنية والعسكرية.
•ولعلي لا أتجاوز إن قلت بأن المجتمع الليبي لا يزال ومنذ 2011م عبارة عن مجتمع منقسم بين فريقين؛ الأول مدن وقبائل منتصرة، وأخرى منهزمة، وإذا أضفنا إلى هذا الانقسام مسألة أخرى، وهي انتشار الجماعات المسلحة التي أصبحت منتشرة في كل المدن والقرى، وتعمل وفقًا لتوجهات قبلية ومناطقية، وأصبحت بعض تلك القبائل والمناطق المنتصرة تقدم نفسها وكأنها مرجعا أعلى لذلك الحراك وصارت لها الكلمة؛ بل والسلطة الفعلية، وبدأت سلطتها تتحدى في أحايين كثيرة سلطة الحكومة، كل ذلك جعل مساحة القلق والخوف والظلم والمجهول تتسع لتملأ جل المشاهد والوقائع المجتمعية، بالتالي أجزم بأنه لا أحد يعرف حجم مأساة انتشار الجماعات المسلحة أكثر من الليبيين!.
•لقد تحوّل ذلك الحراك المجتمعي من حراك إنساني يُطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلى حرب أهلية، وتحول بعد ذلك إلى مجرد السعي لبناء قناعات من بعض القبائل والمناطق بإمكان استغناء إحداها عن الأخريات، وأصبحت بعض تلك الجماعات القبلية والمناطقية تمثل الوطن لدى بعض أفرادها.
•إن القوى الدولية والإقليمية التي قدمت الدعم والمساندة للحراك المجتمعي، كان باعثها من ذلك هو حماية مصالحها في ليبيا، ولست بحاجة إلى التذكير بأن الدعم والمساندة الخارجية كان لها دور كبير في إذكاء الانقسام الداخلي ما بين الليبيين في مرحلة ما بعد 2014م، وكانت النتيجة للأسف الشديد العبث بأقدار الوطن وتسليمه إلى الآخرين، وقد يصل الأمر ذات يوم وإذا 99 % من أقدار الوطن بيد أولئك الآخرين، عندئذ فلا يلوم الليبيون إلا أنفسهم؛ فإستراتيجيات الأوطان لا تحددها أهواء ورغبات أشخاص مهما حسنت.
•أصبح فهم الكثير من المسائل الخاصة بالأزمة الليبية مرتبطاً بالحسابات الدولية، وفي ظل هذه الأجواء سمحت الحسابات الدولية بظهور عدد من القوى الصغيرة المتصارعة والتي يمكن احتواءها، أو على الأقل توجيهها وتصفية بعضها، فوجود تلك القوى كان في الغالب متوافقًا مع لعبة توازن القوى التي أصبحت موجودة في ليبيا منذ 2011م، فراحوا يتفرجون علينا ونحن نتصارع كالديكة، ولكن بعض تلك القوى الصغيرة كبرت مثل مستصغر الشرر، وكأن تلك الأجواء أرادت القول لقد هيأت لكم هذا الصراع، والذي أعاد ليبيا من حالة التناغم والانسجام المجتمعي، إلى التصارع والمشاحنة، تنطلق جلها من منطق الثأر بين القبائل، ولم نعد ندرك ما يُراد بنا، فتم صرفنا مما ينبغي إلى ما لا ينبغي، والأيام بينهما دول!.
•أدت الحروب الأهلية 2014 و2019 – 2020م إلى مزيد من التآكل في مؤسسات الدولة، كما أن تلك الحروب أزاحت مسألة بناء الدولة إلى الهامش، وأدت إلى ضياع الهوية الوطنية، والذاكرة الجمعية، كما أنها شطحت بأوهام البعض بأنه بإمكانهم حكم ليبيا. وفي ظل هذه الوقائع والأحداث كانت الجزائر بعيدة عن أيّ دور فاعل أو مؤثر في الأزمة الليبية، وهذا ربما متأتِ من عوامل داخلية قد نتفهم أسبابها.
ومع تسلم السيد الرئيس عبد المجيد تبون رئاسة الجمهورية كان لدي اعتقاد بأنه سيكون هناك وعي ونباهة في السياسة الجزائرية تجاه الأزمة الليبية، مما سيسمح بإحداث التغييرات اللازمة في تلك السياسات، وليس تغييرًا في الأشخاص؛ ولكنه أكبر، وليس تغييراً في الأساليب؛ ولكنه أعمق وأشمل.
وهذا الاعتقاد ربما متأتِ بأن حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا والعواطف بين ليبيا والجزائر لابد وأن تقوم بدورها الطبيعي في تلك السياسات، بالتالي أجزم بأن الشعور بالمسؤولية تجاه تلك الحقائق والثوابت أصبح يمارس قوة الضغط، بحيث يصعب استمرار تجاهلها أو مقاومتها، فالدور الجزائري الحالي لا يمكن الإلمام به خارج دائرة العلاقات التاريخية المشتركة، وسأكتفي في هذا السياق وفي عجالة بالتنويه إلى أهم المواقف التاريخية المهمة في العلاقات الليبية الجزائرية، فليبيا كانت إبان فترة ثورة التحرير الجزائرية قاعدة مهمة للتخطيط والتسليح والتدريب للقضية الجزائرية، كما لستُ بحاجة إلى التذكير بشأن لجان المناصرة الشعبية التي شكلها الشعب الليبي من أجل دعم ومساندة الثورة الجزائرية في كلّ المدن والقرى الليبيّة، ولا أعتبر نفسي أضيف جديداً عندما أقول بأن ملك ليبيا السابق إدريس السنوسي هو أصيل مدينة مستغانم الجزائرية.
وعمومًا سأكتفي في هذا السياق بالتنويه إلى عدد من الملاحظات حول أهم ما سجلته من ممارسات ومواقف للدور الجزائري تجاه الأزمة الليبية، وهي:
•لقد مارست الجزائر جل اختياراتها - منذ اقترابها أكثر - من الأزمة الليبية بناء على مساحة اللقاءات والاجتماعات التي عُقدت في الجزائر، والتي حاولت أن تكون ممثلة للأطراف الليبية المتخاصمة، سواء من حكومة الوفاق الوطني، أم الحكومة المؤقتة، أو من مجلس النواب، أو مجلس الدولة، وهذا يعني أن هناك تفاعلاً مع جل القوى والأطراف والجهات التي رأتها الجزائر ممثلة لأطراف المصالح المتأثرة والمؤثرة في نفس الوقت بالأزمة الليبية.
•لقد لاحظنا في بعض الأحيان بأن الجزائر غير راضية عما تراه من ممارسات ومواقف سواء أكانت من حكومة الوفاق، أم من الحكومة المؤقتة، لكنها بحسب اعتقادي كانت تدرك جيدًا بأن دائرة الفعل لم تسمح لها بالتصريح والإعلان عن كل حالات عدم الرضا.
إن السؤال الجوهري الذي يقفز إلى الذهن هنا في ضوء هذه الخلفية وهو: ما أهم المسارات المقترحة للدور الجزائري في الأزمة الليبية؟
إن ما يعنينا الإشارة إليه في هذا الخصوص هو أن هناك عددا من المسارات المقترحة التي نعتقد بالحاجة إلى التدبر في ماهيتها بغية الولوج لدور جزائري فاعل ومؤثر في الأزمة الليبية، وهي:
•هناك حاجة إلى قيام الجزائر بزيادة مساحات التفاعل في المجتمع الليبي؛ لتتسع بالقدر الذي تستطيع من خلاله بناء شواهد وأدلة جديدة، وهذا يعني ببساطة شديدة ضرورة التواصل مع القوى والأطراف الفاعلة في ليبيا بشكل مباشر، كي تُتيح لها صياغة اختيارات ومعالجات جديدة.
•يتوجب الإدراك بأن المقدرة على التأثير لا تصنعها اللقاءات أو الاجتماعات أو الاتصالات، إنما تتحقق عندما تصبح دولة الجزائر جزءًا مهماً من حركة موازين القوى في الوضع الذي تريد التأثير فيه.
•تبرز الحاجة إلى توضيح بأن أيّ دور ستقوم به الجزائر في الأزمة الليبية لا ينشأ لمجرد الرغبة في أداء ذلك الدور، إنما يتوقف ذلك الدور وتأثيره بمدى كمية الإمكانات المتاحة وراءه، وامتلاك المقدرة على تحمل تكاليفه على المدى الطويل، ولقد رأينا دولا استطاعت التأثير في الأزمة الليبية عندما وضعت إمكانات وراء ذلك الدور، لتكون لها الفاعلية في الأزمة الليبية.
•هناك حاجة إلى إدراك بأن إستراتيجية أي وطن لا تكفيها أهواء أو رغبات الرؤساء أو القادة، وإنما تفرضها أولا ثوابت الجغرافيا، ثم تحركها ثانياً دواعي التاريخ، كما يكون مفيدًا أن نشير إلى أن الجزائر مدركة جيّدا بأن الليبيين قد يعتبون أو يغضبون من بعضهم البعض، وقد تصل بهم مستويات ذلك الصراع إلى قتال بعضهم بعضاً، لكنهم تحت كل الظروف لا يسمحون، ولا يقدرون على السماح بتقسيم الوطن، فذلك أكثر مما يحتملون، وأكثر مما تحتمل الظروف.
•إن الأزمة الليبية كانت ولا تزال بحاجة إلى دعم دولة الجزائر على وجه الخصوص كونها تمتلك مع ليبيا تراكماً تاريخياً واجتماعياً، وروابط العقيدة والدماء المشتركة على الحدود، والأهم من كل ذلك وجود قبول مجتمعي واسع لهذا الدور، وربما تجلى هذا في جل اللقاءات والاجتماعات التي تم عقدها مع الأطراف الليبية، سواء على مستوى حكومة الوفاق الوطني، أم الحكومة المؤقتة.
وختامَا ومع كل ما سبق يمكن القول بأن هذه المقالة هي دعوة خالصة - من أكاديمي ليبي- نحو أهمية قيام دولة الجزائر بالسعي الحثيث نحو تحمل مسؤولياتها الأخوية والتاريخية تجاه الأزمة الليبية، وهذا هو أساس هذه المقالة وجوهرها، والتأكيد على أهمية مراجعة وتقييم السياسات الجزائرية تجاه الأزمة الليبية، بغية البحث عن إجابات لعدد من التساؤلات المهمة، وهي:
• أين هي الآن من الأزمة الليبية؟
• وماذا تريد؟
• وما المناخ الذي تتحرك فيه؟
• وكيف تستطيع التحرك؟
لذلك سنتركها ونواصل الحديث عن أهم التساؤلات التي يتوجب علينا نحن الليبيين البحث عن إجابات لها، وهي:
• أين هي مصلحة ليبيا؟
• وأين هو أمن ليبيا؟
• وما العمل؟ وإلى أين تتجه ليبيا؟
عمومَا ليس من المبالغة القول بأنه لا يستطيع أحد الإجابة عن هذه التساؤلات وحده، إنما من خلال إشراك جميع الفاعلين بمستديرة وطنية، تعيد ترتيب البيت الليبي، وتبحث عن المشتركات التي تجمع ولا تفرق، والتأكد بأن بوصلة تلك المستديرة يتوجب أن تتجه نحو وحدة الوطن.
ونختم هذه المقالة بالإشارة إلى كلمات للدكتور مصطفى بعيو أستاذ التاريخ في ليبيا يقول فيها «لو عرفنا أنفسنا جيدا وفهمنا ماضينا على حقيقته لتغلبنا على الكثير من المشاكل، لاتخذنا ماضينا عبرة ومن دروسه مصباحا يضيء لنا الطريق ويحدد لنا المعالم ويحفظ لنا شخصيتنا أسوة بما هو معمول به في البلاد الأخرى».